كتاب: تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن الكريم



قال أصحاب القول الآخر: الدليل على أنه وصف: أن فعلل ضربان:
أحدهما: صحيح لا تكرار فيه، كدحرج، وسرهف، وبيطر. وقياس مصدر هذا الفعللة، كالدحرجة والسّرهفة، والبيطرة، والفعلان- بكسر الفاء- كالسّرهاف والدحراج. والوصف منه: مفعلل كمدحرج ومبيطر.
والثاني: فعّل الثنائي المكرر كزلزل، ودكدك ووسوس. وهذا فرع على فعلل المجرد عن التكرار. لأن الأصل السلامة من التكرار. ومصدر هذا النوع والوصف منه: مساو لمصدر الأول ووصفه. فمصدره يأتي على الفعللة، كالوسوسة، والزلزلة، والفعلان كالزلزال.
وأقيس المصدرين وأولاهما بنوعي فعلل: الفعلان. لأمرين.
أحدهما: أن فعلل مشاكل لأفعل في عدد الحروف وفتح الأول والثالث والرابع وسكون الثاني. فجعل إفعال مصدر أفعل، وفعلال مصدر فعلل ليتشاكل المصدران، كما يتشاكل الفعلان. فكان الفعلال أولى بهذا الوزن من الفعللة.
الثاني: أن أصل المصدر أن يخالف وزنه وزن فعله، ومخالفة فعلال لفعلل أشد من مخالفة فعللة له. فكان فعلال أحق بالمصدرية من فعللة، أو تساويا في الاطراد، مع أن فعللة أرجح في الاستعمال وأكثر. هذا هو الأصل.
وقد جاءوا بمصدر هذا الوزن المكرر مفتوح الفاء.
فقالوا: وسوس الشيطان وسواسا، ووعوع الكلب وعواعا. إذا عوى، وعظعظ السهم عظعاظا. والجاري على القياس فعلال بكسر الفاء أو فعللة. وهذا المفتوح نادر. لأن الرباعي الصحيح أصل للمتكرر ولم يأت مصدر الصحيح، مع كونه أصلا، إلا على فعللة وفعلال بالكسر. فلم يحسن بالرباعي المكرر، لفرعيته، أن يكون مصدره إلا كذلك. لأن الفرع لا يخالف أصله، بل يحتذي فيه حذوه. وهذا يقتضي أن لا يكون مصدره على فعلال بالفتح. فإن شذ حفظ ولم يزد عليه.
قالوا: وأيضا فإن فعلالا المفتوح الفاء قد كثر وقوعه صفة مصوغة من فعلل المكرر، ليكون فيه نظير فعال من الثلاثي. لأنهما متشاركان وزنا.
فاقتضى ذلك أن لا يكون لفعلال من المصدرية نصيب، كما لم يكن لفعال فيها نصيب. فلذلك استندروا وقوع وسواس، ووعواع، وعظعاظ مصادر.
وإنما حقها أن تكون صفات دالة على المبالغة في مصادر هذه الأفعال.
قالوا: وإذا ثبت هذا: فحق ما وقع منها محتملا للمصدرية والوصفية أن يحمل على الوصفية حملا على الأكثر الغالب، وتجنبا للشاذ.
فمن زعم أن الوسواس مصدر مضاف إليه ذو تقديرا. فقوله خارج عن القياس والاستعمال الغالب.
ويدل على فساد ما ذهب إليه أمران.
أحدهما: أن كل مصدر أضيف إليه ذو تقديرا، فتجرده للمصدرية أكثر من الوصف به. كرضى وصوم وفطّر، وفعلال المفتوح لم يثبت تجرده للمصدرية إلا في ثلاثة ألفاظ فقط: وسواس، ووعواع، وعظعاظ، على أن منع المصدرية في هذا ممكن. لأن غاية ما يمكن أن يستدل به على المصدرية قولهم: وسوس إليه الشيطان وسواسا. وهذا لا يتعين للمصدرية، لاحتمال أن يراد به الوصفية: وينتصب وسواسا على الحال، ويكون حالا مؤكدة. فإن الحال قد يؤكد بها عاملها الموافق لها لفظا ومعنى، كقوله تعالى: {وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} [4: 79] و{سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ} [16: 12].
نعم، إنما تتعين مصدرية الوسواس إذا سمع: أعوذ باللّه من وسواس الشيطان ونحو ذلك مما يكون الوسواس فيه مضافا إلى فاعله، كما سمع ذلك في الوسوسة. ولكن أين لكم ذلك؟ فهاتوا شاهده. فبذلك يتعين أن يكون الوسواس مصدرا لا بانتصابه بعد الفعل.
الوجه الثاني من دليل فساد من زعم أن وسواسا مصدر مضاف إليه ذو تقديرا: أن المصدر المضاف إليه ذو تقديرا لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع. بل يلزم طريقة واحدة، ليعلم أصالته في المصدرية، وأنه عارض الوصفية فيقال: امرأة صوم، وامرأتان صوم، ونساء صوم لأن المعنى ذات صوم وذاتا صوم، وذوات صوم وفعلال الموصوف به ليس كذلك بل يثنى ويجمع ويؤنث فنقول: رجل ثرثار، وامرأة ثرثارة، ورجال ثرثارون، وفي الحديث: «أبغضكم إليّ الثرثارون المتفيهقون» وقالوا: ريح رقراقة، أي تحرك الأشجار، وريح سفسافة أي تنخل التراب، ودرع فضفاضة أي متسعة، والفعل من ذلك كله فعلل، والمصدر فعللة وفعلال بالكسر، ولم ينقل في شيء من ذلك فعلال بالفتح وكذلك قالوا: تمتام وفأفاء، ولضلاض، أي ماهر في الدلالة، وفجفاج كثير الكلام وهرهار أي ضحاك، وكهكاه، ووطواط أي ضعيف، وحشحاش، وعسعاس أي خفيف. وهو كثير. ومصدره كله الفعللة، والوصف فعلال بالفتح، ومثله هفهاف أي خميص، ومثله دحداح، أي قصير، ومثله: بجباج أي جسيم، وتختاج: أي ألكن، وشمشام: أي سريع، وشيء خشخاش أي مصوت، وقعقاع مثله، وأسد قضقاض: أي كاسر، وحيّة نضناض: تحرك لسانها.
فقد رأيت فعلال في هذا كله وصفا لا مصدرا. فما بال الوسواس أخرج عن نظائره وقياس بابه؟.
فثبت أن وسواسا وصف لا مصدر، كثرثار، وتمتام، ودحداح وبابه.
ويدل عليه وجه آخر: وهو أنه وصفه بما يستحيل أن يكون مصدرا، بل هو متعين في الوصفية، وهو {الخناس} فالوسواس، والخناس: وصفان لموصوف محذوف. وهو الشيطان.
وحسّن حذف الموصوف هاهنا غلبة الوصف، حتى صار كالعلم عليه.
والموصوف إنما يقبح حذفه إذا كان الوصف مشتركا. فيقع اللبس كالطويل والقبيح، والحسن ونحوه، فيتعين ذكر الموصوف ليعلم أن الصفة له لا لغيره.
فأما إذا غلب الوصف واختص، ولم يعرض فيه اشتراك. فإنه يجرى مجرى الاسم، ويحسن حذف الموصوف: كالمسلم والكافر، والبر، والفاجر، والقاصي، والداني، والشاهد والوالي، ونحو ذلك. فحذف الموصوف هنا أحسن من ذكره.
وهذا التفصيل أولى من إطلاق من منع حذف الموصوف ولم يفصل.
ومما يدل على أن الوسواس وصف لا مصدر: أن الوصفية أغلب على فعلال من المصدرية كما تقدم. فلو أريد المصدر لأتى بذو المضافة إليه ليزول اللبس وتتعين المصدرية. فإن اللفظ إذا احتمل الأمرين على السواء فلا بد من قرينه تدل على تعيين أحدهما. فكيف والوصفية أغلب عليه من المصدرية؟.
وهذا بخلاف صوم وفطر وبابهما، فإنهما مصادر لا تلتبس بالأوصاف.
فإذا جرت أوصافا علم أنها على حذف مضاف، أو تنزيلا للمصدر منزلة الوصف، مبالغة، على الطريقتين في ذلك.
فتعين أن {الوسواس} هو الشيطان نفسه. وأنه ذات لا مصدر. واللّه أعلم.
فصل:
وأما الخناس: فهو فعّال، من خنس يخنس: إذا توارى واختفى.
ومنه قول أبي هريرة: (لقيني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في بعض طرق المدينة، وأنا جنب. فانخنست منه).
وحقيقة اللفظ: اختفاء بعد ظهور. فليست لمجرد الاختفاء. ولهذا وصفت بها الكواكب في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [81: 15] قال قتادة: هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار، فتختفي ولا ترى. وكذلك قال علي رضي اللّه عنه: هي الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى.
وقالت طائفة: الخنّس: هي الراجعة التي ترجع كل ليلة إلى جهة المشرق، وهي السبعة السيارة.
قالوا: وأصل الخنوس: الرجوع إلى وراء. و{الخناس} مأخوذ من هذين المعنيين. فهو من الاختفاء والرجوع والتأخر. فإن العبد إذا غفل عن ذكر اللّه جثم على قلبه الشيطان. وانبسط عليه، وبذر فيه أنواع الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها. فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به، انخنس وانقبض، كما ينخنس الشيء ليتوارى. وذلك الانخناس والانقباض: هو أيضا تجمّع ورجوع، وتأخر عن القلب إلى خارج. فهو تأخر ورجوع معه اختفاء.
وخنس وانخنس: يدل على الأمرين معا.
قال قتادة: الخناس: له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان. فإذا ذكر العبد ربه خنسه.
ويقال: رأسه كرأس الحية. وهو واضع رأسه على ثمرة القلب يمنّيه ويحدثه. فإذا ذكر اللّه خنس. وإذا لم يذكره عاد، ووضع رأسه يوسوس إليه ويمنيه.
وجيء من هذا الفعل بوزن فعّال الذي للمبالغة دون الخانس والمنخنس: إيذانا بشدة هروبه ورجوعه، وعظم نفوره عند ذكر اللّه. وأن ذلك دأبه وديدنه لا أنه يعرض له ذلك ذكر اللّه أحيانا. بل إذا ذكر اللّه هرب وانخنس وتأخر. فإن ذكر اللّه هو مقمعته التي يقمع بها، كما يقمع المفسد والشرير بالمقامع التي تردعه من سياط وحديد وعصىّ ونحوها. فذكر اللّه يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه، كالسياط والمقامع التي تؤذي من يضرب بها.
ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلا ضئيلا مضنى، مما يعذبه المؤمن ويقمعه به من ذكر اللّه وطاعته.
وفي أثر عن بعض السلف: أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيره في السفر. لأنه كلما اعترضه صب عليه سياط الذكر، والتوجه والاستغفار والطاعة، فشيطانه معه في عذاب شديد. ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحة ودعة. ولهذا يكون قويا عاتيا شديدا.
فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر اللّه تعالى وتوحيده واستغفاره وطاعته عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار. فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يعذبه شيطانه.
وتأمل كيف جاء بناء {الوسواس} مكررا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارا، حتى يعزم عليها العبد. وجاء بناء {الخناس} على وزن الفعال الذي يتكرر منه نوع الفعل. لأنه كلما ذكر اللّه انخنس، ثم إذا غفل العبد عاوده بالوسوسة. فجاء بناء اللفظين مطابقا لمعنييهما.
فصل:
وقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} صفة ثالثة للشيطان.
فذكر وسوسته أولا. ثم ذكر محلها ثانيا، وأنها في صدور الناس ثالثا.
وقد جعل اللّه للشيطان دخولا في جوف العبد ونفوذا إلى قلبه وصدره.
فهو يجري منه مجرى الدم. وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات.
وفي الصحيحين من حديث الزهري عن علي بن حسين عن صفية بنت حيي قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم معتكفا، فأتيته أزوره ليلا. فحدثته. ثم قمت، فانقلبت، فقام معي ليقلبني. وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار. فلما رأيا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أسرعا. فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «على رسلكما، إنها صفية بنت حيي». فقالا: سبحان اللّه يا رسول اللّه! فقال: «إن الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم. وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا- أو قال- شيئا».
وفي الصحيح أيضا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط. فإذا قضى أقبل. فإذا ثوب بها أدبر. فإذا قضى أقبل، حتى يخطر بين الإنسان وقلبه، فيقول: اذكر كذا اذكر كذا- لما لم يكن يذكر- حتى لا يدري: أثلاثا صلى أم أربعا؟ فإذا لم يدر: أثلاثا صلى أم أربعا؟ سجد سجدتي السهو».
ومن وسوسته: ما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق اللّه؟ فمن وجد ذلك فليستعذ باللّه ولينته».
وفي الصحيح: أن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قالوا: «يا رسول اللّه إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخرّ من السماء إلى الأرض أحبّ إليه من أن يتكلم به. قال: الحمد للّه الذي رد كيده إلى الوسوسة».
ومن وسوسته أيضا: أن يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله. ولهذا يضاف النسيان إليه إضافته إلى سببه.
قال تعالى: حكاية عن صاحب موسى إنه قال: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [18: 63].
وتأمل حكمة القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه {الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس} ولم يقل: من شر وسوسته: لتعم الاستعاذة شره جميعه. فإن قوله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ} يعم كل شره. ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرا، وأقواها تأثيرا وأعمها فسادا. وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة. فإن القلب يكون فارغا من الشر والمعصية فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله، فيصوره لنفسه ويمنيه، ويشهيه، فيصير شهوة، ويزينها له ويحسنها، ويخيلها له في خياله، حتى تميل نفسه إليه فيصير إرادة. ثم لا يزال يمثل له ويخيل ويمنى ويشهى وينسى علمه بضررها، ويطوى عنه سوء عاقبتها. فيحول بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط. وينسى ما وراء ذلك. فتصير الإرادة عزيمة جازمة. فيشتد الحرص عليها من القلب. فيبعث الجنود في الطلب. فيبعث الشيطان معهم مددا لهم وعونا. فإن فتروا حرّكهم. وإن ونوا أزعجهم. كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [19: 83] أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا.
كلما فتروا أو ونوا أزعجتهم الشياطين وأزّتهم وأثارتهم. فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب، وتنظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة. وقد رضي لنفسه بالقيادة لفجرة بني آدم. وهو الذي استكبر وأبى أن يسجد لأبيهم. فلا بتلك النخوة والكبر ولا برضاه أن يصير قوادا لكل من عصى اللّه. كما قال بعضهم:
عجبت من إبليس في تيهه ** وقبح ما أظهر من نخوته

تاه على آدم في سجدة ** وصار قوادا لذريته